رحيل راسم أوزدينورن- الأدب الإسلامي، الإرث والتأثير في تركيا

المؤلف: د. ياسين أقطاي08.13.2025
رحيل راسم أوزدينورن- الأدب الإسلامي، الإرث والتأثير في تركيا

فقدت الساحة الأدبية التركية مؤخرًا قامةً رفيعةً من قاماتها، هو الأديب والكاتب راسم أوزدينورن، الذي وافته المنية عن عمر ناهز الثانية والثمانين عامًا. وجاء رحيله بعد فترة وجيزة من فقدان الأديب الكبير سيزاي كاراكوتش في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، وقبله بوقت قليل رحل المفكر نوري باكديل. لقد رحل في فترة وجيزة مجموعة من الكتاب العظام الذين كان لهم أثر بالغ في تكوين شخصية العديد من أعضاء الحزب الحاكم الحالي في تركيا.

لقد شهدت تركيا في الآونة الأخيرة رحيل عدد من العلماء الأجلاء وشيوخ الطرق الصوفية، إلا أن الأدباء والشعراء كانوا الأقرب إلى قلب العالم الفكري الإسلامي في تركيا. وعلى الرغم من أن هؤلاء الأدباء لم يحظوا بتعليم أكاديمي متعمق في العلوم الإسلامية، إلا أنهم استطاعوا ببراعة أن يجمعوا بين المعرفة الغربية التي اكتسبوها وبين الثقافة الإسلامية الأصيلة، وكان لهذا المزج الفريد تأثير كبير على الأجيال الصاعدة. يُنظر إليهم على نطاق واسع على أنهم من أبرز الشخصيات التي ساهمت في إثراء الحركة الإسلامية في تركيا، وذلك على الرغم من بعض النقاط التي قد تُعدّ ضعفًا في تجربتهم، ولكنهم في الوقت نفسه قدموا إضافات قيّمة وأثروا الفكر الإسلامي، وساهموا في تنميته وازدهاره.

تُخلّد ذكرى الشاعر ظريف أوغلو، الذي توفي في عام 1987 عن عمر يناهز 47 عامًا، بقصيدته الشهيرة التي تحمل عنوان "سبعة رجال جميلين". والرجال الذين ذكرهم الشاعر في هذه القصيدة هم نخبة من أصدقائه المقربين، من بينهم: نوري باكدل، وعاكف إنان، وإردم بيازيت، وسيزاي كاراكوتش. وكان راسم أوزدينورن هو آخر من بقي على قيد الحياة من بين هؤلاء الرجال السبعة الذين اشتهروا بإبداعاتهم الأدبية من قصص ومقالات قيّمة.

وإذا طُلب مني أن أقدم شهادة في حق الراحل راسم أوزدينورن، فإني أقول إنه كان كاتبًا مسلمًا ملتزمًا، شديد الاهتمام بالتفكير العميق في قضايا الحياة من منظور إسلامي. لقد تصدى ببسالة لـ "ظالم عصره" الذي سعى جاهدًا لعزل المسلمين وتهميشهم، وذلك من خلال كلماته المؤثرة وأدبه الرفيع وقصصه المُلهمة.

لقد سطر أوزدينورن روايته الذائعة الصيت "الرجل الذي ينشئ وردة"، ليصف بدقة حالة المسلمين الذين آثروا العزلة والابتعاد عن الحياة العامة استجابةً لـ "ثورة القبعات"، التي فرضت على الجيل ارتداء القبعات بالإكراه. وفي خضم هذه الظروف، استطاع العالم الجليل أن يعزز مكانة المسلمين الملتزمين في العصر الحديث من خلال أدبه الراقي، حيث استطاع أن يُذكّرهم بتجاربهم الغنية ويخلق لهم آفاقًا جديدة ومصدر إلهام وتحفيز للأجيال الناشئة. لقد اضطلع بمهمة جليلة، وهي رواية قصة هؤلاء الرجال وتوثيق شهاداتهم للأجيال القادمة، وبذلك أسس الأرضية الأدبية لظهور فكر المقاومة والصعود من جديد.

لا شك أن هناك الكثير مما يمكن قوله عن شخصية أوزدينورن وحياته المديدة ككاتب متميز، لكن أبرز صفاته كانت التواضع الجم، فقد كان يعيش حياة بسيطة كأي إنسان عادي. وأعتقد أن انفتاحه المدهش على التعلم واكتساب المعرفة وتركه أثرًا عميقًا في نفوس كل من عرفه. إن جوهر قصة حياته يكمن في تواضعه وإخلاصه الشديد للكلام والأدب والكتابة، وبالطبع إخلاصه لله ورسوله والمؤمنين في حياته اليومية.

الجمال والكلمة والتأليف في عالم راسم أوزدينورن

نحن نعيش اليوم في عصر يستطيع فيه أي شخص أن يمسك بلوحة المفاتيح أو حتى بهاتفه المحمول وينشر ما يشاء من كتابات بكل سهولة ويسر، ولكن يبقى السؤال المطروح: هل يمكن أن نطلق على كل هؤلاء لقب "مؤلفين" حقيقيين؟ إننا بحاجة ماسة إلى إعادة إحياء النقاش الذي دار منذ زمن بعيد بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع حول المعنى الحقيقي لكلمة "كاتب" أو "مؤلف". وفي خضم هذه المناقشات المحتدمة بين العلماء، ظهر كتاب "وفاة المؤلف"، الذي زعم في حينه أن المؤلف لم يعدو كونه مجرد مرآة تعكس نوعًا من الوعي الاجتماعي والتاريخي لما يقوله، وأنه لم يعد شخصًا أو سلطة تتمتع معرفتها وكلماتها بخصوصية وتميز عن الآخرين، وأنه لا يملك الحق في أن تكون له الكلمة الأخيرة.

إن قصة "وفاة المؤلف" تتعارض بشكل صارخ مع حقيقة أن عدد المؤلفين قد ازداد بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، ولكن المؤشر الحقيقي لهذه الوفاة ليس الزيادة المطردة في عدد المؤلفين، بل فقدان المؤلف لمكانته كسلطة ذات نفوذ وتأثير، ولا بد لنا من إعادة النظر مليًا في هذا الأمر، والتساؤل عما إذا كان هذا التطور إيجابيًا أم سلبيًا!

ومع ذلك، وبغض النظر عن مدى تقلص أبعاد السلطة والنفوذ، فإن فكرة المؤلف الذي يتبنى فكرًا متميزًا وأسلوبًا فريدًا تظل حاضرة وبقوة، فالأمر برمته يتعلق بتوقعات القراء ومدى قدرة المؤلف على أن يحافظ على مكانته كسلطة أدبية وفكرية.

من غير الإنصاف أن نختزل شخصية أوزدينورن في مجرد مؤلف عادي، فهو ليس مجرد كاتب بالمعنى التقليدي للكلمة، بل هو مؤلف من طراز فريد ومتميز للغاية، فهو يرى أن المؤلف الحقيقي يجب أن يعبر عن "السلام الوجودي" الكامل، بحيث لا يمكن أن يُنسب إلى المعرفة التي ينتجها أو اللغة التي يتحدث بها، وأن المؤلف يجب أن يشعر بهذا السلام بتواضع عميق نابع من الأدب الإسلامي الذي يجب أن يعتبره المؤلف منهجًا له.

لقد استطاع أوزدينورن أن يجد قارئه الخاص الذي يفهمه ويتفاعل معه، حيث كان يكتب وكأنه يجري حوارًا خاصًا معه، يكتب وكأنه يعلم علم اليقين أن راحة البال لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال هذا الحوار المتبادل. كان يكتب بنوع من السلام الداخلي العميق، مدركًا أن السلام الوجودي الحقيقي لا يمكن أن يتحقق مع القارئ بشكل دائم ومستمر.

لقد قرأ أوزدينورن بعمق شديد للعديد من الكتاب الوجوديين، وهذه القراءة المتأنية المتعمقة، بالإضافة إلى أسلوبه المتميز في الكتابة وتنشئته الفريدة، أدت إلى إحداث تأثير كبير في شريحة واسعة من الشباب المسلمين. فالذين كانوا يقرؤون نصوص أوزدينورن لم يكونوا يشعرون بأنهم عالقون في مستنقع أو تائهون في طريق وعر.

لقد امتلك أوزدينورن بعض السمات التي يحملها العديد من المثقفين المسلمين من جيله، فقد كان رجل أدب رفيع وعالم اجتماع متبحر في الوقت نفسه، كما كان من أبرز الشخصيات في الجيل الفكري الذي عمل كرائد رأي بالوكالة عن المسلمين والعلماء الذين حُرموا من علمهم. لقد شكلت مقالاته القيّمة في الفكر الإسلامي -التي كتبها في منتصف الثمانينيات- مرجعًا هامًا، وصاغت منظور الفكر الإسلامي والشباب في العديد من القضايا الهامة.

نسأل الله العلي القدير أن يتغمد الكاتب راسم أوزدينورن بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته. وأتقدم بخالص التعازي والمواساة لأقاربه وذويه ولكافة المسلمين.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة